الاقتصاد العالمي خلال 2023 .. تفاؤل أمريكي وتشاؤم أوروبي

تاريخ النشر

لندن-أخبار المال والأعمال- كيف يمكن لنا أن نقيم المشهد الاقتصادي لعام 2023؟ هل يمكن القول إن العام اتسم في كثير من الأحيان بالفوضى وخيبة الأمل، أم علينا أن نعد المحصلة النهائية له أفضل من توقعاتنا الأولية؟ هل انتهت المتاعب الاقتصادية لعام 2023 بنهاية العام، أم سيحملها للعام المقبل، وربما الأعوام المقبلة؟ 

من الرابح ومن الخاسر اقتصاديا في عامنا هذا الذي ينتهي اليوم؟ ما أبرز التحديات التي هيمنت على الساحة الاقتصادية الدولية في عام 2023؟ هل كانت الحلول المالية لأغلب مشكلاته ناجحة أم لم تأت بالنتائج المرجوة؟ باختصار إلام يشير الجرد الاقتصادي لعام 2023؟

اليوم، يرحل عام 2023، ولا يزال الاقتصاد العالمي، رغم كل التدابير التي اتخذت للتصدي للمشكلات التي برزت، يعاني انخفاض توقعات النمو، واستمرار التضخم بمعدلات مرتفعة، رغم لجوء البنوك المركزية حول العالم إلى رفع أسعار الفائدة وتشديد سياساتها المالية، علاوة على ضعف نمو التجارة الدولية، وانخفاض ثقة الشركات والمستهلكين بالمسار الاقتصادي الدولي.

تقديرات المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية تشير إلى أن النمو العالمي لن يتجاوز هذا العام حدود 3 في المائة، والفضل في ذلك يعود إلى النمو السريع للاقتصادات الآسيوية. وقد منحت معدلات النمو تلك بعض الخبراء ارتياحا نسبيا في تقييمهم لمسارات الاقتصاد الدولي هذا العام، خصوصا المنطقة الخليجية.
ويقول لصحيفة "الاقتصادية" السعودية، إل.دي. كريستوفر نائب الرئيس السابق للجنة الاستراتيجيات المالية في بنك إنجلترا، "مع نهاية عام 2023، فإن وجهة النظر السائدة حول النمو العالمي تميل إلى الإيجابية، والتوقعات المحلية أكثر تفاؤلا مما قبل، خاصة في الولايات المتحدة، لكن وجهات النظر في القارة الأوروبية أكثر تشاؤما، والاستجابة الاقتصادية في آسيا هي الأفضل سواء في دول الخليج العربي أو الهند وحتى الصين رغم مشكلاتها الاقتصادية المتعددة".

ويضيف "سياسات التشديد المالي التي اتبعتها الاقتصادات المتقدمة، أدت إلى تراجع نمو تلك الاقتصادات من 2.6 في المائة العام الماضي إلى 1.5 في المائة هذا العام، وبالطبع فإن ذلك أثر أيضا في الاقتصادات النامية والناشئة التي تعد أسواق الاقتصادات المتقدمة شديدة الأهمية لاستيعاب منتجاتها من السلع الأولية، لكن التراجع في النمو في الاقتصادات الناشئة والنامية كان متواضعا فمن 4.1 في المائة العام الماضي يرجح ألا تنخفض عن 4 في المائة هذا العام".

ويستدرك قائلا "المحرك الرئيس للاقتصاد العالمي هذا العام يظل منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ويتوقع أن تصل معدلات النمو إلى 4.6 في المائة مقابل 3.9 في المائة العام الماضي وبذلك تكون تلك المنطقة من العالم قد أسهمت بنحو ثلثي النمو العالمي هذا العام، رغم البيئة الصعبة التي تواجه الطلب العالمي على السلع والخدمات والتشديد النقدي".

تتفق وجهة نظر إل.دي. كريستوفر مع تصريحات عديد من المسؤولين الدوليين بأن الاقتصاد العالمي يواصل التعافي من كوفيد - 19، والحرب الروسية - الأوكرانية، وأزمة الطاقة التي حدثت عام 2022، ولا شك أن ذلك يكشف المرونة التي يتمتع بها الاقتصاد الدولي، الذي لم يستسلم للانهزام رغم الصدمات الكبرى التي تعرض لها في العامين أو الثلاثة الماضية، لكن تلك المرونة لا تخفي أن الاقتصاد الدولي لا يزال في وضع غير جيد تماما، وأنه يتعثر ولم ينطلق بسرعة كبيرة بعد على حد قول إل.دي كريستوفر، وهو ما يجعله محقا في تركيز تقييمه للأداء الاقتصادي العالمي بناء على معيار معدل النمو المحقق أكثر من أي معيار آخر، فلا شك أن لتلك القضية أهميتها ومركزيتها في تقييم المشهد الاقتصادي العام.

مع هذا ترى مجموعة من الخبراء أن التضخم وعدم الاستقرار الجيوسياسي هما اللذان صاغا المشهد الاقتصادي بامتياز هذا العام. الدكتورة جين هيل أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة أكسفورد ترى أن العام سينتهي بمعدل تضخم عالمي يقترب من 7 في المائة، وتعزي الفضل في تراجع معدل التضخم على المستوى الدولي إلى تشديد السياسات النقدية ورفع معدلات الفائدة، وانخفاض أسعار الطاقة وبدرجة أقل أسعار المواد الغذائية، لكنها تستبعد أن تفلح البنوك المركزية في خفض معدلات التضخم إلى المستويات التي ترغب فيها التي تقارب 2 في المائة حتى في العام المقبل.

وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن قضية التضخم وكيفية السيطرة عليه احتلت الحيز الأكبر من الاهتمام الدولي هذا العام، كما لعبت قضية التوقعات المستقبلية بشأن التضخم دورا رئيسا في دفعه إلى الأعلى، لكن مسار التضخم العالمي في الأشهر الأخيرة ينبئ بمسار هبوطي تدريجي، ويتضح ذلك من توقعات المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين إضافة إلى كبرى الشركات والمستثمرين الدوليين".

وتضيف "مع هذا يمكن الجزم بدرجة عالية من الثقة بأن المشهد يختلف بشكل كبير من منطقة إلى أخرى في العالم، ففي أوروبا لا تزال قضية التضخم قضية مؤرقة للغاية للبنوك المركزية، وستستمر كذلك في العام المقبل، الولايات المتحدة المشهد أكثر إشراقا، إذ يبدو الفيدرالي الأمريكي أكثر قدرة على السيطرة على معدلات التضخم، لكنه لا يزال بعيدا عن تحقيق هدفه المنشود بنسبة تضخم 2 في المائة. في آسيا لا يزال التضخم ضمن النطاقات التي تستهدفها البنوك المركزية، ويرجع ذلك إلى نوع المنتجات والخدمات السائدة في الاقتصادات الآسيوية، والتدابير الحكومية لتقييد الأسعار، كما أن عمليات الإغلاق بسبب جائحة كورونا كانت أطول أمدا، ما أدى إلى تثبيط الطلب ومن ثم خفض التضخم".

ورغم ما تبديه الدكتورة جين هيل من ترحيب بتشديد السياسات النقدية هذا العام كوسيلة أساسية للسيطرة على التضخم، يرى الخبير المصرفي إيد كينسبرج أن سياسات الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة التي أصبحت القاعدة الذهبية على المستوى الدولي لمكافحة التضخم أدت إلى إضعاف سوق الإسكان العالمية، وتباطؤ الإقراض المصرفي، ودفع القطاع الصناعي إلى حافة الركود، لكنه يشير إلى أنه تم تعويض نقاط الضعف تلك من خلال القوة المستمرة في طلب الأسر على الخدمات، ما دعم أسواق العمل المحلية على المستوى الدولي.

ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن أبرز الملامح الاقتصادية لهذا العام أن الاقتصاد الدولي نجا من دوامة الركود التضخمي بمعنى ارتفاع التضخم مع انكماش الاقتصاد، لكن هذا لا ينفي أن هناك أخطارا من ترك البنوك أسعار الفائدة مرتفعة كما هي الحال حاليا لفترة طويلة، وتلك هي الظاهرة الاقتصادية الأبرز هذا العام، واذا استمرت فإننا سنشاهد ارتفاعا في تكلفة رأس المال للأعمال التجارية والتمويل للمستهلكين، ما قد يؤدي إلى تباطؤ في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي".

وفي الواقع فإن رفع أسعار الفائدة بشكل متواصل في عديد من الاقتصادات الكبرى، قد جعل من قضية الديون أحد الملفات الساخنة في عام 2023، فبالنسبة إلى الحكومات تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى تفاقم خدمة الديون ما يزيد من مستويات الديون السيادية الضخمة بالفعل، وقد لعبت قضية الديون دورا في خفض التصنيف الائتماني لاقتصادات متعددة من بينها الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها.

من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، سيلفيرتون باكويل أستاذ المالية العامة في مدرسة لندن للتجارة "قضية الديون دخلت دائرة الضوء هذا العام نتيجة عاملين، الأول أن الدين العالمي بلغ بالفعل مستوى قياسيا حيث قدر بـ307 تريليونات دولار، وهذا يغطي الاقتراض من قبل الحكومات والشركات والأسر، جزءا من هذا الارتفاع يعود إلى معدلات التضخم المرتفعة خاصة في الولايات المتحدة واليابان والمملكة المتحدة وفرنسا، إذ إن إجمالي الدين العالمي لم يتجاوز 226 تريليون دولار عام 2021، العامل الثاني وراء الاهتمام بقضية الديون هذا العام يعود إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومي".

ويضيف "الصين واصلت لعب دور مركزي في زيادة الدين العالمي، وهو ما يحدث في العقود الأخيرة حيث تجاوز الاقتراض النمو الاقتصادي، وارتفع الدين كحصة من الناتج المحلي الإجمالي إلى المستوى ذاته في الولايات المتحدة، لكن في حين أن إجمالي ديون الصين يبلغ 47.5 تريليون دولار فإنه يظل أقل بشكل ملحوظ من نظيره في الولايات المتحدة الذي يقارب 70 تريليون دولار، أما بالنسبة إلى ديون الشركات غير المالية فإن حصة الصين تبلغ 28 في المائة وهي الأكبر في العالم".

قضية ديون الاقتصادات الناشئة كانت محل تقييمات مختلفة هذا العام. فوفقا لوارك ريد الباحث في معهد الدراسات المالية فإن البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل عليها سداد ما يقرب من نصف مليار دولار يوميا من الفوائد والديون حتى عام 2029.

ويقول لـ"الاقتصادية"، "رغم الضغوط التي تعرض لها عديد من الاقتصادات الناشئة والنامية هذا العام نتيجة تراكم الديون، فإن الكارثة التي توقعها البعض بداية العام والمتعلقة بانفجار أزمة ديون في الأسواق الناشئة لم تحدث، رغم التحديات الكبيرة الناتجة عن ارتفاع أسعار الفائدة، والارتفاع الحاد في قيمة الدولار".

ويضيف "لكن السؤال إلى متى ستظل الأسواق الناشئة صامدة إذا استمرت أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة؟ فارتفاع الإنفاق الدفاعي، والتكاليف المتزايدة نتيجة التحول إلى الاقتصاد الأخضر، والشعبوية، وارتفاع مستويات الديون وتراجع العولمة، وعدم اليقين المحيط بمسار الاقتصاد الدولي، كل ذلك يعني أنه تم تأجيل أزمة ديون البلدان الناشئة لبعض الوقت".

لكن الدكتورة إيملي دوست أستاذة التجارة الدولية في جامعة كامبريدج ترى أنه إذا كان التضخم هو الحدث الاقتصادي الأبرز هذا العام، فإن مظاهر التباطؤ الاقتصادي في الصين تعد الحدث الأكثر مدعاة للقلق بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، والأخطر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

وتؤكد لـ"الاقتصادية"، أن "ضعف الطلب وعدم اليقين في قطاع العقارات في الصين لا يعدان تهديدا محليا للاقتصاد الصيني، إنما يمكن أن تمتد آثارهما إلى الاقتصادات الإقليمية المجاورة للصين وإلى الاقتصاد العالمي، وهذا سيترك بصمة شديدة السلبية على نمو التجارة الدولية هذا العام، ولربما تصبح أكثر وضوحا وحدة في العام المقبل إذا لم تسرع السلطات الصينية لإيجاد حل لتلك المشكلات".

تبدو منطقية الربط بين وضع الاقتصاد الصيني والتجارة الدولية، واضحة من خفض منظمة التجارة العالمية توقعاتها لنمو تجارة السلع العالمية هذا العام إلى النصف لتخفضها من 1.7 في المائة إلى 0.8 في المائة، ويظهر ذلك بوضوح تباطؤا تجاريا واسع النطاق.

مع هذا تشير الدكتورة إيملي دوست إلى أن نمو التجارة العالمية هذا العام مر بمرحلتين النصف الأول من العام، حيث انخفض حجم تجارة البضائع بنسبة 0.5 في المائة، أما النصف الثاني من العام فقد شهد انتعاشا متواضعا، ومن الممكن أن تحقق التجارة الدولية نموا أعلى إذا انخفضت معدلات التضخم وفقا لتقديراتها.

لم تسلط الأضواء كثيرا على أسواق العمل الدولية خلال عام 2023، وربما يعود ذلك إلى أن الفترة من يناير إلى سبتمبر الماضي، شهدت تحسنا ملموسا في أسواق العمل في الاقتصادات المتقدمة، حيث بدا أن الأمور تسير في اتجاه العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل جائحة كورونا، فإن انتعاش التوظيف كان سريعا للغاية في الاقتصادات المتقدمة.

بدوره، يقول لـ"الاقتصادية"، ريبن ريد الباحث السابق في منظمة العمل الدولية وأستاذ اقتصادات العمل في جامعة جلاسكو "شهد عديد من الاقتصادات المتقدمة، باستثناء اقتصاد المملكة المتحدة، انخفاضا مستمرا في معدلات البطالة، ووصلت معدلات التوظيف إلى مستويات تاريخية، بل إن كثيرا من الاقتصادات المتقدمة واجه مشكلة نقص العمالة في بعض المهن".

مع هذا يشير الباحث ريبن ريد إلى أن الوضع الراهن للاقتصادات المتقدمة يثير عددا من الأسئلة المهمة حول اتجاهاتها المستقبلية التي قد تؤثر في الطبيعة المرتقبة لسوق العمل، فقضية الأجور وعدم تناسبها مع الارتفاع المتواصل في تكلفة المعيشة، يجعل الحديث عن استقرار أسواق العمل في الاقتصادات المتقدمة مستقبلا محل نقاش.

لا تزال التوقعات الاقتصادية العالمية غير مؤكدة إلى حد كبير، ومناخ من عدم اليقين يسود في الأجواء، ورغم نجاح كثير من الاقتصادات في لجم التضخم إلى حد ملحوظ، فإن قضية التضخم ستظل القضية المحورية والهاجس الاقتصادي الأكبر ليس فقط هذا العام بل في العامين المقبلين، ورغم نجاح الاقتصاد الدولي عام 2023 في تجنب الركود التضخمي، فإن الخبراء لا يخفون خشيتهم من أن تؤدي جهود كبح جماح التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة إلى رفع تكاليف الاقتراض، من ثم الإضرار بالإنفاق سواء الحكومي أو الأسر خلال الفترة المقبلة.

ورغم أن بعض مؤشرات هذا العام تجعل من المأمول أن يشهد الاقتصاد الدولي مزيدا من التحسن في العام المقبل، لكن هذا لا يجب أن ينسينا أن الاقتصاد العالمي لا يزال في وضع محفوف بالأخطار حتى الآن.

المصدر: صحيفة الاقتصادية السعودية